مبدأ استقلال القضاء بین النظریة والتطبیق

توضیح

لأهمیة القضاء وخطورة المهمة التی أنیطت به، فقد بادر منذ القدم، الفیلسوف الیونانی أرسطو الى رسم صورة لاستقلال القضاة ودورهم فی تحقیق العدالة، انها صورة الفتاة المعصوبة العینین وهی تحمل بیدها میزان العدالة. فأرسطو یرى ان العدالة لکی تکون صادقة وغیر متحیزة ینبغی ان تکون عمیاء. وکأنه اراد ان یقول لیکن الکل متساوین امام القاضی أی وضع کل من القریب والغریب والصدیق والعدو فی میزان واحد. وعند البحث فی مفهوم استقلال القضاء، لابد من التمییز مابین استقلال القضاء وبین حیدة القضاة. فأستقلال القضاء یعنی التحرر من تدخل السلطات الأخرى فی الشؤون القضائیة. فی حین ان حیدة القضاة تتعلق بقدرة القاضی نفسه على القضاء فی ایة دعوى دون أی تحیز شخصی ضد أی طرف من أطراف الدعوى. فمعاییره ورؤیته للأشخاص والأشیاء والتعاطی معهما والحکم علیهما ینبغی الا تجری الا طبقاً للحقائق والقواعد القانونیة. ولهذا السبب تسعى المجتمعات الحدیثة التی تنشد إحقاق الحق والعدالة وضمان حریة المواطن الى التأکید على مبدأ استقلال القضاء عبر القواعد والنصوص الدستوریة. ولکن هل استقلال القضاء یتحقق فعلیاً بمجرد النص علیه فی الدساتیر والوثائق الدولیة؟ الجواب على ذلک نقول ان الدراسة الموضوعیة تکشف لنا مدى الهوة التی تفصل بین النظریة والتطبیق، بین مضامین النصوص وبین تطبیقاتها على الصعید العملی.ولو درسنا بتمعن ماهیة الأسباب لحصول هذه الفجوة.. لظهر لنا ان هناک أسباباً تتعلق بشخص القاضی (باعتباره کائناً بشریاً) وأسباب أخرى لها صلة مباشرة بطبیعة النظام السیاسی والقانونی الذی یخضع له القاضی.نرى ان استقلال القضاء استقلالاً تاماً عن السلطتین التشریعیة والتنفیذیة، أمر مستحیل عملیاً. فالقضاة لابد لهم من تشریعات او قوانین یحکمون على مقتضیاتها، ومن ثم یجب علیهم الخضوع للقوانین التی تضعها السلطة التشریعیة، ومنها مثلاً إصدار قوانین من شأنها إحداث تغییر فی طبیعة الحقوق. او إنشاء محاکم خاصة للنظر فی مسائل معینة وإخراجها من إطار العدالة العامة. او القوانین المتعلقة بالتنظیم القضائی. ویمکن ان تتغلغل الاعتبارات السیاسیة والحزبیة الى القضاء فی حالة اختیار أعضائه عن طریق السلطة التشریعیة. کما ان السلطة التنفیذیة وفی معظم دول العالم هی التی تمتلک صلاحیة تعیین القضاة وترقیتهم وتأدیبهم، وإحالتهم على التقاعد، مما یسمح بتدخلها بصورة مباشرة او غیر مباشرة فی شؤون القضاء. اما مسألة حیدة القاضی عند النظر فی القضایا المعروضة إمامه، فهی تبقى مسألة نسبیة، متأتیة من کون القاضی کائناً بشریاً (ذاتاً) ولیس (موضوعاً)، فهو یرى الأشیاء والأشخاص بعیونه ویحکم علیها بعقله ومقاییسه الذاتیة ولیس بعقل وعیون الآخرین.. ولکی یکون موضوعیاً، علیه ان یخرج من جلده، وهذا امر مستحیل. من البدیهی ان یقوم القضاة ، فی حقیقة الأمر، بتفسیر القوانین وتقییمها وفقاً لتصوراتهم الشخصیة والأفکار والأیدیولوجیات التی یؤمنون بها، والتی هی ولیدة واقعهم وانتماءاتهم الطبقیة، فینحازون للأیدیولوجیة التی یعتنقوها وللطبقة التی ینتمون الیها.. ولکی یقترب القاضی قدر المستطاع من تحقیق مبدأی الحیدة والاستقلال، علیه النظر وبحیادیة الى القضایا المعروضة علیه من اربع زویا، ثم التشاور مع قضاة اخرین فی الحکم لتقلیص مساحة الذاتیة والخطأ لدیه کذلک التدریب والتأهیل المستمر للقاضی للارتقاء به الى مستوى یعلو فوق مصالحه ومیوله الشخصیة والسیاسیة.